كعادتي.. أبدأ يومي بالاستيقاظ على صوت آذان الفجر من الزاوية فى أول حارتنا .. أتوضأ واذهب للصلاة مع عم ياسين, آخذًا بيده, ونمشي سويًا للمسجد خطوة خطوة بينهما استراحات قصيرة.. فعم ياسين كبير السن ضعيف النظر.. لكنى أعزه جدًا.. فهو رجل طيب.. يعاملني كإبنه بل أكثر.. بعد الصلاة يعطيني عم ياسين بعض الجنيهات لأشتري الإفطار المعتاد؛ فول وطعمية وعيش صابح.. وأصعد إلى شقته لأعد له الطعام ونفطر سويًا.. ألم أقل أنه يعاملني كإبنه.. بعد الإفطار أستأذن عم ياسين لأذهب إلى لقمة عيشي, ويدعو لي بما يفتح الله عليه , ليت كل الناس كعم ياسين!
أحمل القفة على ظهري, وابدأها باسم الله .. توكلت على الحى الرزاق.. أصعد إلى العمارات , وأمام باب كل شقة أجد حاويات القمامة المليئة, فأقوم بسكبها فى القفة .. أما تلك الشقق التى لا يضعون القمامة فى صناديق أمام شقتهم, فأقوم بطرق الباب عليهم وأنتظر إلى أن يجمعوا لي ما استهلكوه وخلفوه ورائهم خلال يومهم الفائت..
وهكذا أكمل يومي.. بين جدٍ طيب يكرمني.. وبين أناسٍ يهينوني بنظراتهم؛ ففى عرفهم : الأعلى يدهس الأدنى .. وأنا فى نظرهم أدنى ولا يدنو عنى شئ .. أنظر لحالهم معى فأتمنى ألف مرة أن يكون كل الناس كعم ياسين الطيب.. ولمَ لا ؟ فأنا أشعر وأنا فى صحبة هذا الرجل أني إنسان لي مشاعر وكرامة.. كم أقسمت عليه ألا يعطيني نقود كل صباح بعد قولته (صباح الخير) وبابتسامته التى تنير وجهه .. ليقول لي -عندما ارفض- : وهل يبخل الأب على إبنه ! فأرى عينيه فى تلك اللحظة كعين أبي.. بصفائهما وطيبتهما التى تشرق على الدنيا وتشعرنى بالامان..!
ولمَ تتباين نظرات الناس لي بين الإشفاق المحرج والكِبر المجرح !
أنا لست محتاج إليهم.. أنا فقط أعمل وأسعى على باب الله .. أنا لم أمد يدي إليهم يومًا رغم أنى أعلم أنى لو فعلتها لنلت الكثير من أصحاب القلوب الطيبة وهم كثر لكن عزة نفسي تمنعنى .. كيف أسأل الله أن يديم على نعمة الصحة كل صباح وألا أؤدي شكر هذه النعمة بالسعي واستخدامها فى الخير .. أليس خيرًا أن أكون عامل نظافة لأنظف ما يخلفه الناس ورائهم؟ .. أليس خيرًا من أن يعيش الناس ويتعايشون مع مخلفاتهم ..
أسير وأنفض عنى نظراتهم القاسية مع بعض الغبار عن ملابسى التى بدلتها بعدما انتهيت, وأسلّم العهدة -القفة .. وأعد نفسي بحمام دافئ ليخفف عني قسوة هذا البرد القارس , وقسوة كل شئ..
وفى طريقى للبيت متعبًا فى هدوء الليل .. أشاهد تلك الأم التى تقفل الشباك على أطفالها.. وأتمنى لو كنت أحد هؤلاء الأطفال.. لترعانى امى بحبها .. وأشاهد هذا الزوج الذي يحمل فى قلبه الرعاية لأهله بماله وعرق جبينه, وأشاهد الفخر فى عينيه بأنه الأب والزوج, وبكلمات شكر بقضاء حوائح الناس.. وأرثي لحالي.. ألا أقضي لهم حوائجهم.. هؤلاء الناس..؟! وألاحظ تلك القطة التى تنظف قططها الصغيرات بلسانها.. وأتعجب من فعلتها.. فلا يدعوها أحد بـ"زبّالة" لفعلتها تلك .. بل ينظرون إليها ويقولون ما احن تلك القطة بأبنائها..!
ألاحظها وألاحظ كل شئ حولي.. وأغمض الطرف عن كثير .. أما أنا فلا يلاحظني ولا يشاهدني أحد..!